" أنت حرّ ما لم تضرّ"
حكمة يدرك سرها العاقل و يعمل بها و يتجاهلها المتهوّر و يحسب أنّ
تنازله عن الإضرار يضرّ بحرّيته ولا يشعره بلذّة الفعل وإن كان مرّا .
لا جدال في أنّ الحرية
أعزّ المطالب التي يهون دونها العمر ولا مراء في أنّ العيش يفقد معناه إن غابت عنه
نسائمها هي التي تنعش الأرواح و تحيي القلوب و هي التي تفتح الآفاق و تهزم
الظلمة وتذيب الأحزان .. لأجل ذلك تدفع الأثمان غالية لنيلها و تقتحم الأهوال للتفيّئ
بظلّها وتدقّ أبوابها بالحزم و الإصرار دقّا يدمي الأيادي ولكنّه يفتح المغلق بإحكام ..
و لا جدال في أنّ الحرية خير لا ينتج شرّا و هي نعمة لا تستوجب
قدحا وهي مطيّة إبداع و ركيزة خلق ..
على هذه الشاكلة
تفهم الحريّة فإن فهمها البعض فهما مغايرا غدت فوضى
تعصف بالحق بدل أن تنصره وتشيع الاضطراب بدل أن تعزّز الأمن وتزرع الشقاق بدل
أن تؤلّف بين القلوب ..
لقد فتحت الثورة
التونسيّة المباركة آفاقا كانت مسدودة و أضاءت دروبا كانت حالكة و أطلقت
ألسنة كانت معقودة وأزاحت أثقالا كانت الكواهل تنوء بها كلّ هذا جميل باركناه و
ابتهجنا له و انطلقت من حلوقنا الزغاريد مولولة تعلن لحظة الخلاص و احترقت أيدينا مصفّقة
تستحسن الفعل والفاعل..و..و..
وها نحن نمارس حريتنا على أوسع
نطاق نمارسها قولا و فعلا .. نمارس الحريّة كما لم يمارسها عاقل .. نمارسها بكل
انفعال تجيش به الصّدور ..نمارسها بكل صراخ تسمح به الحناجر .. بكلّ عنف تستعرض به
عضلاتنا القوة الكامنة فينا لعقود ..
أليست الحرية أن نثبت وجودنا أحبّ الآخر أو لم يحبّ ؟ أليست الحرية
أن نطلق العنان للأماني المكبوتة حتى تعلن عن نفسها؟ أليست الحريّة أن نلوي أيدي
الأقوياء و لا ضير إن كسرت... أن نجبرأصحاب المال والجاه و الأعمال على سماع أصوتنا وأن نكرههم على الرضوخ إلى مطالبنا ؟
أن نعطّل مصالحهم بالوسائل المتاحة ..لا يهمّ إن لم تكن قانونيّة أو أخلاقيّة ..
ما يهمّنا هو أن نشعرهم أنّنا موجودون في الساحة و لن نتركها حتّى يركع المتخم
مالا و كبرياء أو وطنية و إيثارية لا يهمّ..
صرنا أحرارا نوقف النشاط ما لم يتغيّر حظّنـا العاثر نربك الاقتصاد
ما لم نفرض ذواتنا ، ما لم تشملنا القوائم المرشّحة للالتحاق بمؤسّسة
عريقة تغدق على العاملين بها بلا حساب لا يهمّ إن كانت مؤهّلاتنا لا تستجيب للشروط
المطلوبة .. لا يهمّ إن كانت المؤسسة في غير حاجة لشباب لا يحسن غير احتساء القهوة
وتدخين اللفافة تلو اللفافة ..و تعمير بطاقات الرّهان الرّياضي أملا في ثروة "سراب" تنفتح بها الابواب..
لا يهم إن تعطّلت دواليب الإنتاج.. إن صارت خسائر المؤسسة فوق
التصوّر .. لقد أتاحت لنا الثورة المباركة حريّة التعبير و التحرّك و إن كان
تعبيرنا عواء ذئاب و إن كان تحركنا فوضى هدّامة فلتحيَ الحرّية التي تقتل الحرية !!
وعندما تفاجئنا المؤسّسة بغلق
أبوابها بشكل نهائيّ نصعق تذهلنا المفاجأة .. لسنا الأقوياء الذين يفرضون سلطانهم
و يملون شروطهم ليستمرّ نشاط الناشطين ؟ ونترجى عودة من ترك البلاد بعد ان تافف من العباد
نستعطف صاحب الفضل أن يعفو عن شغّالين أتعبهم البحث عن الأجر الأعلى و عن عاطلين
ألهتهم ذواتهم الطامعة ومصالحهم القريبة عن مصائر أطفال و مصالح شعب يتوق للإفلات
من قبضة الحاجة المهينة و المطلبية العقيمة ..ليتنا تحررنا من أهوائنا قبل أن
نتحرّر من أهواء غيرنا.ليتنا أدركنا حقيقة من جعل سلطانه هواه ...
نستغرب أحيانا نقد
الآخرين لنا و نراه تحاملا ينطوي على استعلاء متأصّل و استنقاص ليس حديث عهد و
نتّهم من نقدنا بأنّه لا يعرف الحقائق و إن عرفها فإنّه يشوّهها لغاية في نفس
يعقوب . ولم نفكّر يوما في النظر إلى ذواتنا نظرة أخرى غير التي تعوّدنا أن ننظر
بها ، نظرة من يلهيه العُجب عن الاعتراف بالتقصير حين يقصّر و تغريه الحماسة
المشتعلة فينشغل" بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة " ينساق لا يلوي على
شيء وراء ذات عاطفتها أكبر من عقلها و أمانيها أوسع من الآفاق التي ترنو إليها .
لم لا نقف أمام المرآة مرّة لا لعشق الذات
و إنّما للبحث عمّا يجعل الذات جديرة بالعشق ؟ هل نخاف مواجهة حقائقنا ؟ هل
نخشى اكتشاف ما يقزّمنا ؟ ألهذا الحدّ بلغت بشاعتنا فعمدنا إلى إخفائها وراء مساحيق خادعة ؟؟
تقول الحكمة : الفضيلة
وسط بين رذيلتين ، فالشجاعة تتوسّط الجبن و التهوّر والكرم فضيلة تتوسّط التقتير و
التّبذير و هكذا ... فلنكن في حرّيتنا بين المستسلمين و المستبدّين لا يرضينا أن
نكون بلا صوت ولا يسعدنا ألاّ نسمع غير صوتنا .لنكن أحرارا مسؤولين و كفى .لو كنا
كذلك لهانت مشكلاتنا ، ولتغلّبنا على عقم يسم تصرّفنا ولا ندري أنّه يلازم قولنا و
فعلنا . فمتى ننتبه إلى ما فينا من عيوب ؟ متى يدرك البعير أنّ السّنام لا
يثقل ظهر أخيه فقط ؟
إنّ ما يشغل البال
بالدرجة الأولى ليس الاندفاع اللامحدود الذي يتّسم به سلوك عامّتنا ليست المواقف
العاطفية الثائرة على الموجود نافعا كان أو ضارّا يقفها الإنسان العاديّ منّا و
لكن ّ الذي يحيّر العقل و يزعج الخاطر ما يصدر عن " مثقفينا " أو
بالأحرى أصحاب الشهادات العليا التي خوّلت لهم الالتحاق ببعض المناصب أصحاب شهادات بات مستواها متدنّيا يحملها البعض كيفما اتفق لينعتوا بخريجي الجامعات
و لتصبح الصّفة وحدها كافية لإدانة من لم ترفعه ثقافته فيبتعد عن الممارسات
البلهاء التي يأتيها الجهلة من النّاس . ما يزعج أيضا ما لجأ إليه محترفوا
الصحافة والسياسة في عهد اللاّقانون من مخاطبة للعواطف بما أنّ التوجّه إلى العقول يتطلّب
درجة لا بأس بها من الصّنعة و الرصانة و
الحكمة و بعد النظر . ألا يكفي أنّنا منفعلون بالفطرة حتّى تتعامل معنا خطابات السّياسيين ومقالات ثلة من الصحافيين بهذا القدر من الإثارة و التحريض ؟ وحتى تقرع مسامعنا اصوات بعض مربين أوكلت لهم مهمة التكوين والتربية لبناة الغد تتوعد وتتحدى ولا يضيرها أن تسف وأن تثلب وأن تعلن أن الإسفاف ليس من صفات الرعاع فحسب وأن الثلب ليس دليل ضعف .ما يزعج أن يماطل بعض رجالات الحقوق إنّ أمرهم لمحيّر لايتورّعون عن الدّفاع عن الشيطان إن كان في الدّفاع عنه غنم ،ويتحمّسون لتبييض الإجرام معتبرين أنّ انتماءهم للمهنة يملي عليهم ذلك و تمليه ضمائرهم المتيقظة.
رفقا بأنفسكم أيّها
المتحرّرون حديثا .. رفقا بالنّاس فإن النيران إن لم تجد ما تأكله أكلت نفسها . رفقا
بأنفسكم يا شباب الوطن ليس من حقّكم أن تتحوّلوا بيادق يحرّكها محترفوا الإثارة ليس
من حقّكم أن تصبحوا مشاريع هدم وقد ولدتكم أمّهاتكم لتكونوا مشاريع بناء و حياة لا
حقّ لكم في اغتيال الحقّ ، في
اغتيال أنفسكم في إفناء غيركم الذي لا يريد بكم شرّا .أحبّوا الحياة يا أبناء الحياة أحبّوا الحقّ و الجمال فالله جميل و هو الحقّ الذي حرّم الظلم وهوالنور الذي محا الظلمة. رفقا بالآخرين أيها المتفضلون فالاقتسام أفضل في كل الأحوال من العطاء .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire