رسومات على ريش الطيور 195814.png

samedi 29 juin 2019

أفّ لها من رداءة

      تبّا لرداءة  آل إليها واقعنا ، لم يسلم منها قطاع و قليل هم الذين لم يلحقهم أذاها و لم تطلهم أصابعها المتعفّنة ، ولم تزعجهم ألفاظها المبتذلة . رداءة في ما يكتب و ما يقال  و في ما يأتيه الكثيرون من الأفعال ، رداءة يتفاقم أمرها يوما بعد يوم و تتّسع رقعتها في كل الاتّجاهات رداءة باتت مألوفة لا تنكرها العقول و القلوب و لا تمجّها الأسماع  و لا تتأذّى بها الأبصار ، لم تعد من الرّذائل المرفوضة قيميا و ذوقيا تترفّع عنها النّفوس و تأباها الضّمائر الحيّة ...
      تبّا لمجتمع يهيم بها سلوكا و ممارسة و لا يتستّر... بها يتعامل لا يضيره شيء ، يمارسها في السرّ و العلن لا يثنيه رادع ذاتي ولا موضوعي بل إنّه يتباهى كما لو أنّه أتى الحكمة التي عزّت على غيره و بلغ بها  الكمال المرتجى ..
     تقلّب صفحات الجرائد و المجلاّت تتابع ما ينشر في مواقع التّواصل الاجتماعي تنصت عن قصد أو عن غير قصد لما يدور من محادثات و حوارات فتصدمك التفاهة  و تؤذيك البذاءة و تحيّرك السطحية و تحزنك المضامين تنقبض نفسك يصيبك الغثيان . فماذا دهاهم اولئك الذين ارتاحت أبصارهم للدميم من المناظر و استساغت أذواقهم القبيح من الصّور و اطمأنّت أسماعهم إلى الممجوج من القول و الإيقاع و سعدت نفوسهم بسيئ العمل و فاحش القول و غريب السلوك وهمجيّه ؟؟
   أ عجيب أن ينتهي بنا الأمرإلى هذا الحدّ من الرّداءة إلى هذا المستوى من التدنّي يقع فيه الكبير قبل الصغير والسّائس قبل المسوس  وقد فهمنا أنّ التطوّر يعني الانحلال والابتذال و أنّ الدّيموقراطية تعني الفوضى وأنّ المقصود بالحرية سباب و ثلب.  بعد أن تركنا النّظر و التدبّر و اتّبعنا الغريزة و الهوى ؟ أ عجيب أن يجرفنا التيّار فننقاد  رغما عنّا لا قدرة لنا على الثبات أو المقاومة ؟ ثم نحسب أنّ التأثّر بمن حولنا ممّن لم يعد يعترف بمسكوت عنه و لا بممنوع ، بمن يدّعي أنّ الحرّية أن تفعل ما تشاء وقتما تشاء أينما تشاء ، أنّ التأثّر بهؤلاء هو عين التقدّم  و أنّ ما حصّلناه في بيوتنا و مدارسنا و معاهدنا و جامعاتنا خرافة لا ثقافة .
     الأكيد أنّ للرّداءة أسبابها الذّاتية و الموضوعية  و أنّ استفحال أمرها مردّه  أوّلا سلبية النقد بل قل غيابه ، فالأشياء لا يستقيم اعوجاجها إن غاب الطّرق الدّقيق الموزون يسبقه الاحماء المدروس  لا يأتيهما غرير أو دخيل .أننتظر استقامة الظلّ إذا ظلّ العود معوجّا ؟  و مردّه ثانيا إلى الإفلات من المحاسبة ثمّ العقاب فطالما غاب الرّدع واستمرّ السّكوت عن الحق عاثت شياطين الإنس فسادا و تجاهرت بالعدوان و دافعت عن الرّداءة باستماتة .
     لقد أتاح ذوو الألباب المجال للمهرّجين فصالوا و جالوا ، سكت العارفون فثرثر أشباه المثقّفين و لغوا وأحجم العقلاء فانبرى السفهاء يملؤون الساحات و القاعات و المجالس هرجا و مرجا .تراجع قادة الفكر النيّرو البصيرة الثّاقبة فلم نعد نسمع ما يفيد و نقرأ ما يغني لم تعد عقولنا تتعب لتنعم بلذّة الرّضى و هدأة الكرى. فليس هناك ما يدفع إلى التّساؤل و التدبّر و يثير الحيرة و الشكّ  اللازمين لبلوغ اليقين ، بقدر ما نلقى من الامتعاض و التأفّف قلّ أن نسمع اليوم مسؤولا إذا تكلّم أفاد و إن وجّه أرشد و إن نقد أصلح وإن آلم أبرأ . تجار الكلام في هذا الزمن الرّدي و حاذقوا التلاســن و السّباب و ممتهنوا البذاءة والاسفاف استأثروا بالحديث  فأشـــــــقوا  و أضنوا  وما أسعدوا و أرضوا هم الأوائل على المنابر و حول الموائد  يتقدّمون الوفود  و يتصدّرون المجالس و يسارعون إلى حضور الملتقيات واللقاءات .. ليتهم غابوا وما حضروا و ليتهم سكتوا إذ حضروا .
       يحزّ في النفس أن يخرج علينا من حين لآخرمسؤول  يبرّر ما لا يبرّر ويجتهد كلّ الاجتهاد ليدحض حقّا بباطل .. ويحزّ في النّفس أن ينساق المرء مدفوعا بانفعالية تارة و بغرور طورا و بجهل بحقائق الأشياء في كثير من الأحيان إلى قدح و مدح لا يقتضيهما مقام فلا الدّاعي ، و الدّاعية بمعنييها ، يستخدم الموعظة الحسنة التي تكشف نفاسة معدن وتشير إلى تواضع من ألمّ وتعمّق وأدرك أنّه و إن جمع و أوعى فقد غابت عنه أشياء وأشياء و لا المدعوّ يجيب بالتي هي أحسن فتكون الكلمة الطيبة -إن امتلكها - أفضل الرّدود  ويكون السكوت أحسن تبليغ إن لم يكن للكلام فائدة ترجى . ساء الخطاب وتقنّع الخطباء بأقنعة ظنّوا أنّ الوجوه بها تكون ناضرة فإذا بها فاقرة .. ألا ساء ما يأتونه من فعل و ما يلفظونه من خطاب .
     في زمن الرّداءة هذا تناسى الكثيرون أنّ من لا خير في كلامه أولى له أن يصمت وأنّ من لا إتقان في عمله الأجدر به التمرّن و التعلّم فإنّ في صناعة المرء بعض ذاته  و الصّنع الرّديء لا يقف وراءه إلاّ مستهتر وضيع  .. 
ألا لعِنتْ الرّداءة ألف مرّة جهرا و مثلها همسا و قطِع اللّسان العاجز عن لعنها إن لم يكن جهرا فسرّا ذلك أنّ السكوت عن الحقّ مباركة للظّلم  ومساندة لمن أتاه خطأ أو احترفه و السّكوت عن الرّداءة انتصار لمعتنقيها .
      ساءت أحوال البلاد بعد أن سكت النّاس عن سفهائها وهم كثر وتزداد سوءا إن هم وضعوا أصابعهم في آذانهم حذر الانصات لصوت الحقّ  يصدع به عقلاء أو تـأتيه ضـمائر تيقّظت  بعد سبات . ساءت أحوال البلاد إن سمعت الوعود تتلاحق و لا يوفّى بها و العهود تعقد ثمّ تخان و تتناسى إن رأيت شعارات التخوين يرفعها الاخوة الأعداء يشّوه بها بعضهم بعضا ....
ألا فليعلم هؤلاء أنّ ما من حرب أشعلها الحقد وأجّجتها الانتهازية أنبتت زرعا أو ملأت ضرعا. ألا فليعلموا أنّ الشّقاق و النّفاق وقد صارا ديدن الكثيرين لن تسلم منهما أرض و لن يصان عرض  ولن يهنأ انسان ..

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire