رسومات على ريش الطيور 195814.png

lundi 23 décembre 2013

فوضى الحياة

       


   إن سرّك وجه للحياة ساءتك  أوجه ، يكفي أن تسير في شوارع مدينة من مدن بلادي، أن تعبر ساحة من ساحاتها ، أن تطوف بأرجائها،أن تدخل مؤسّسة عامّة أو محلاّ خاصّا ، أن تدفعك الحاجة إلى شبّاك إدارة  أن تحدثك نفسك بالاستماع إلى حوارتبثّه محطّة أذاعية أو تلفزية أن تحضر لقاء رياضيا أو تظاهرة فنّية أن تتابع مداولات بيزنطية في المؤسّسة التّشريعية أوعملا دراميا ساذجا في إحدى القنوات الهزيلة... لتقف لا محالة على ملامح ذلك الوجه المقرف ، وجه مقطّب عبوس تساهم في رسم تجاعيده مظاهر لا صلة لها بالتمدّن من قريب و لا من بعيد : الضّجيج والتشنّج و التفاهة و البلادة و الجهل و الوقاحة و..و..و.
         حال مجتمعي نموذج لحال من لحقته لعنة التلوّث فأصابت منه الصميم والتلوّث الذي خالط العقول أشدّها خطرا، فإن تلوّثت العقول فلا تسل عن الأقوال و الأعمال والعلاقات ... ! تلوّث العقول جعل مجرّد التجوّل في الشوارع رحلة عذاب  تتأذّى فيها العين بما يقتحمها من مناظرالقبح و الاتّساخ  و التشوّه و تتأذّى السّمع بما يقرعه من ضجيج يصمّه ومن ألفاظ نابية تخز، ويتأذّى الأنف بما تنشره أكوام الفضلات وأكداس القاذورات  من روائح كريهة وتصدره الأفواه النتنة من بذاءة تثير التقيّؤ ويتأذّى فيها الضمير بما يصدمه من نفاق في المعاملات و ظلم في الأحكام وخيانة للأمانات  وكذب في الأيْمان وسوقية في الخطاب .
غدا  استعمال الطّريق  والجلوس إلى طاولة في مقهى والتوجّه نحو سوق للتبضّع وامتطاء وسيلة نقل عمومي والاتّكاء على أريكة أمام تلفاز ... مغامرات غير محمودة العواقب من  نتائجها توتّر و انقباض و فساد مزاج ولعن إن لم تجهر به الحلوق فقد  أخفته الصّدور  و..و..و دموع  و إن لم تسل فقد ترقرقت في القلب، وتوق إلى الفرار بعيدا بعيدا ، وكفر بأحقّية الانسان في الخلافة و تحمّل الرّسالة ....
        معاناة المرء في هذا المجتمع تتجدّد مع مطلع كل شمس و لا تنتهي بمغيبها و تبلغ المأساة أوجها في ساعات الذّروة وما أكثرها ! فقد صارت ساعات النّهار جميعها ساعات ذروة ، في مفترق طرقات المدن أوعلى مقعد مهشّم في حديقة عمومية بائسة ، أوحول طاولة محتسين لكؤوس ما ارتوى بها ضمآن ، أوأمام مخبزة أو بقّال أوفي سوق فوضوية أوفي أروقة مؤسّسة صحّية عمومية وجب هي الأخرى علاجها ، أو أمام شبابيك مؤسّسة حكومية أوشبه حكومية و....  ، إنّها مشاهد سرياليّة لا يحيط بها تصوير، مشاهد بلا ألوان و لا ضوابط .تصوّر يوم الحشر يوم تذهل المرضعة عن رضيعها يوم يتهادى السابلة كما لو كانوا سكارى و ما هم بسكارى يوم يهيج السائق و يشتم المترجّل ويلعن الرّاكب و يرتجف الصغير و يبكي الشيخ و يرغي المتعجّل و يزبد المتعجرف ويتأفّف الصّبور و يسب المتحاور و يلعن المجيب و يتهكّم المعجَب و يحتقر المتعالي و يتصاغر الذّليل .. و ينوح الضعفاء في صمت ، ذلك هو حال أبناء جلدتي خلفاء الله في الأرض المفسدين مستبيحي الكرامة و العرض. 
   أ وقفت على واقع الناس  وقد تعطّلت الحركة في الطّرقات و توقّفت وعلا اللّغط وتعالت الأصوات  وقرقعت وسائل النّقل ، وغلت الصّدور أكثرمن غلي المحرّكات وظهر التبرّم  وكثر السّخط ، وانعدم الصّبر واستبيحت الممنوعات ؟؟؟ .ذلك هو المشهد المصغّر لما تعرفه حياة النّاس في مجتمع اللاّقانون ..مجتمع الفوضى و المحاباة و التملّق و غياب المحاسبة ، مجتمع النّفاق و الشّقاق .
    أ وقفت على واقع المنتخَبين -النّوائب - بذكورهم وإناثهم وقد اجتهدوا في أكل لحم بعضهم فإن نالوا ما أرادوا خلدوا إلى نوم يميل الأعناق أو إلى لهو بحواسيب و هواتف ما اخترعت لـتكون لعبا في أيدي مدلّلين متصابين أ وقفت على حسّهم الوطنيّ وهم يكيدون لبعضهم أوّلا و لوطنهم ثانيا ؟ تكفي الإشارة إلى تعطيل بعث المؤسّسات الدّستورية المنظّمة للحياة - المحكمة الدستورية مثالا- إنّه نموذج آخر لما آل إليه حال من تسلّق و تملّق و وعد و وأكّد وأقسم و قاسم لئن نصرتني لأخذلنّك ..
      أ وقفت على طوابير المنتظرين لوثيقة إدارية كان بالوسع استخراجها في البيوت ..أو الباحثين دون جدوى عن أدوية لأمراضهم المزمنة في صيدليات المستشفيات و المراكز الصحية .. نموذج جديد لرحلة العذاب التي يُكرَه الكثيرون على ركوب قطارها .
          أ قرأت ما تفتّقت عنه قرائح المؤثّثين لصفحات التواصل الاجتماعي على اختلاف ميولاتهم و مستوياتهم التعليمية و الذّهنية و الأخلاقية ؟ اولئك الذين اعتقدوا أن بذاءة الخطاب ضرب من الفحولة وأنّ تشويه صورة الآخر و تشيئته ترفع قدر من أتقن التشويه وتفنن في الثّلب !! 
           أما آن لسمائنا أن تصفو ولأرضنا أن تتطهّر و لأنفسنا أن تتزكّى ؟ أما حان وقت مراجعة الذات و الشروع في تغييرما بها ليتغيّر واقعنا ؟ أما سئم النّاس الفوضى: فوضى الحياة و الأحياء فوضى المشاعر و الأفعال ؟ تبّا لعيش بلا طعم و لا لون ولا أبعاد، لجلسة لا يطلّق بها القاعد نصَبًا ، و لمشية  لا يسرّي بها السّائر عن نفس ، ولنظرة لا يفتح بها الرّائي أفقا ، ولمتابعة لاتبعث في القلب طمأنينة ،و لحديث لا يزرع في الرّوح سكينة ، تبّا لعيش لا اختيار فيه للحيّ إلا بين طّاعون و كوليرا .إنّ زمنا تحتلّ فيه القاذورات كلّ الأركان و الزّوايا وتختال الجراثيم و تستعرض مهاراتها وتنفّذ أحكامها ويحتلّ اللصوص مراكز القيادة و يندسّ الملاحقون في مؤسّسات التّحصين ، و يرتقي المنتهزون الدرجات ، و يثرثر الألكن و يصمت الفصيح و يُحجم القادر ويُقدم العاجز ،ويفتي الزّنديق و ويسكت العالم ،ويرتع المهرّج ويتوارى الفنّان، لزمن موبوء لم يجد له عقلاء تهديهم الحكمة و الوطنية الصّادقة ، تحدوهم الشّجاعة و الواجب إلى القول الثّابت و الفعل البنّاء وحين يستقيل الشّرفاء في أمّة من الأمم يعيث المنتهزون فيها فسادا يفسدون بوعي و بغير وعي ، يُشيعون كل فعل أخرق و يتعامون عن كلّ سلوك غابيّ وفعل غبيّ و يصمّون الآذان عن كل هتك و ثلب وفحش وسوقية ...  يشرّعون للظّلم و يبرّرون الانتهازية و يدافعون عن المتسلّقين إلى غير علوّ باستماتة غريبة لابراءة فيها ولا حياد . الخبيثون لا تستميلهم إلاّ الخبيثات -أو الخبائث حتّى لا يلتبس الأمر على البعض - لذلك يسارعون أليها أينما كانت وفي أيّ مظهر بدت ..الخبيثات من الأقوال و الأفعال و السلوكات و المعاملات و التّعليقات و التنبّؤات و الافتراءات ...هي زادهم و هي عتادهم . ألم أقل إنّ الفوضى عمّت و استبدّت ؟ حتى غدا الهمس مفضوحا و ما يقال وشوشة يملأ صداه أركان المجالس .

       

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire