رسومات على ريش الطيور 195814.png

dimanche 28 juin 2020

حذار أن تمكّن قاتلا من سكين جزّار

  الحديث عن السّاسة و السياسة يملأ الساحة بمفهومها الواسع  تسمع المثقف و الأمّي والشاب و الكهل و الذكر و الأنثى و تسمع من احترف ومن تطفّل و من قاد و من انقاد من اقتحم ميدانها طمعا ومن مارسها هواية و من كفر بها و بأهلها .. تسمع الجميع، وتدرك أنّ أغلب المتحدّثين يعوزهم تأسيس الخطاب ، كل يدلي بدلوه في مستنقع الأخذ و الردّ فلا تظفر بما تريد ، تسمع من  ينتقد وينحى باللائمة على من ساند و من عارض و من صفّق استحسانا و من بصق استهجانا  تسمع من يبدي امتعاضه من لغة مزدوجة تعني الشيء و ضده  تسعد المتلقي حينا و تشقيه طورا ، يسيل لها اللّعاب يوما و يفور لها الدم أيّاما تسمع من ينتظر فرجا قريبا وهو يعلم أن الأزمة لم تبلغ ذروتها بعد حتى تبدأ في الانفراج وتنظر في الوجوه فتبدو لك غريبة بعض الشيء لم تتعوّد رؤية هذه الملامح المنبئة بإسلامها لا بسلامها و تنصت إلى هذا الخطاب فلا تفقه شيئا كأنّ الناس يتحدّثون لغة غير التي فككت رموزها في المدرسة و المعهد و الكلية ، لغة تذكرك بأبيات للشنفرى استحال عليك فكّ طلسمها ، ولغة أخرى لم تقرأها في كتاب ولم تسمعها أيان كنت تجلس على مقعد الدّراسة ولكنّك تسمعها اليوم في مؤسّسات حكومية من مسؤولين سياسيين خاصّة كشفت ألسنتهم عمّا امتلأت به صدورهم صدق المثل القائل :– كلّ إناء بما فيه يرشح-..
       حين يعييك الفهم تقلّب أوراق  صحيفة حزينة تنبي عناوينها الغليظة بمسحة التشاؤم التي تسيطر على من حرّر و من اختار الصور  ومن راهن على سُمك  الخط و لونه علّه يحدث الرجّة التي أرادها ، فتنتفخ فقاعة هنا و فقاعة هناك تضاف إلى فقاقيع الغضب المنتشرة في البلاد شمالها و جنوبها شرقها و غربها..وهكذا يتكوّن القطيع في مدن الرئاسة القديمة و الثورة  القديمة والتمرّد التلقائي و الاستفاقة المزعومة والانشقاق المدروس.. وهكذا تتجدّد المطالبة بالكرامة المهدورة و الحقوق المهضومة و ينبري متحدّث باسم منسيين يعيشون على هامش الحياة و الثروة قريبة منهم تطلّ برأسها مستهزئة مغرية لكنّها تلوي وجهها عنهم و تتوه ..
          إضراب...اعتصام ...قطع طريق .. مطالبة بمنصب .. بخطة .. بمسؤولية... بمهمّة وقتية تنتهي بإدماج .. تعطيل إنتاج ..  تخريب مؤسسة ...إيقاف نشاط.. إشعال حريق .. صرنا نفهم طرائق التعبير الحضاري عن الرأي.. صرنا قادرين على الإعلان عن وجودنا ، صارت أصواتنا تبلغ عنان السماء كما تبلغها أدخنة الحرائق التي نضرمها هنا و هناك  .. ماذا تعتقدون ؟ نحن الذين ثرنا  و ثورتنا تشفع لنا تبرّر فعلنا ، فما رأيكم ؟   إذا لم تقتنعوا بقدراتنا فبوسعنا التصعيد . بل والمزيد من  الحماقات اللاّوطنية التي يظنها البعض تعبيرا  بليغا عن الوعي الجديد لا يهم إن تعطلت مصلحة ، لا يهمّ إن توقف معمل ، لا يهم أن تأجّلت مشاريع ، لا يهمّ أن أتلفت محاصيل ، لا يهمّ إن تعكّرت علاقات مع أشقّاء أو أصدقاء،إنْ فُقدت آلاف مواطن الرزق لا يهمّ.. إنْ تصدّعت أسرٌ و تشرّد أطفال  لا يهمّ ..فكلّما عمّت هانت ..لا يهمّ أن ترى جهود موسم فلاحي ذهبت هباء منثورا أو التهمته ألسنة نار أشعلها حاقد لا يرضيه أن يتحقّق لبني وطنه اكتفاء ذاتي و لا يشقيه أن تلجأ السّلطة إلى توريد يثقل كاهل المجموعة.. لا يهمّ أن تلتهم ألسنة اللّهب قاطرة مادام حرقها يتيح لمتربّص عرض خدماته و تشغيل أسطوله و استغلال محرومين يسيرٌ عليه استمالتهم عسيرٌ عليهم تجاهل حرمانهم ..
     الشيء الوحيد الذي يكتسب الأهمية هو أن يجد المحتجّ ما يسكت ثورة النفس الحاقدة على من لم يفتح له باب الإدارة أو باحة المؤسسة الصّناعية أو سياج الحقل البترولي أو عمق الغابات .. كيف يحرم راتبا يتمتّع به الآلاف الذين شفعت لهم الثّورة فأدرجت أسماءهم ضمن قوائم المناضلين الثوّار  وإن لم يقدّموا خدمة  .. 
      هذا هو الوعي الجديد في زمن الثورة اللاّمسؤولة ثورة مسحوقين وقعوا بين خطرين: خطر الخطاب الاديولوجي الذي يغري الأعزب المكبوت بحورية جمالها فوق الوصف و الجائع  بثمار قطوفها دانية ، وخطر الخطاب الإرهابي التهريبي الذي يغدق على المحتاجين المال الذي تستقيم به الحال و تتطوّر به الأعمال ،ويعد المخطئين و المتحيّلين و الخارجين عن القانون  بصفح تغدو به بطاقات سوابقهم ناصعة البياض. وفي الخطابين تطرّف هدّام لا يصنع الإنسان السويّ المسؤول إنّما ينحت  شبابا أشقاه التواكل و الغرور وظن أنّه - بعد الانقطاع المبكّر أو المتأخّر، أو بعد التخرّج من جامعات لم يعد يفشل فيها أحد و بعد التّتلمذ على يد دعيّ يزعم أنّ فهمه لرسالة السماء قد بلغ فيه المنتهى ، أو الوقوع في شرك متحيّل مهرّب حذق طرائق  البيع و الشراء التي لا تخضع لرقيب أو محاسب - سيكون أجدر النّاس بالتّسيير و أحق خلق الله بالوظيفة والثروة في الحياة الفانية وبأجمل قرينة وأوسع قصر في الآخرة الباقية .وما لم تمكنه الظروف من ذلك فلن يهنأ في وطنه أحد ولن يسلم من شرّه سياسي أو أمني أو عسكريّ أو مدنيّ ،  شعاره إن متّ ظمآن فلا نزل القطر .لكنّه يستبعد الموت عطشا مادامت طرق التهريب خارجة عن المراقبة وما دام المذنبون أبعد من أن تطالهم يد القانون المبتورة بحكم حسابات هؤلاء و أولئك وكيف تجفّ منابع التطرّف والإرهاب وهي واقعة تحت مظلّة مؤثّرين في الحياة السّياسية ؟ وكيف تقتلع جذور الفساد إذا رعتها أيادي السّاسة ؟
      إنّ المعالجة الجدّية ينبغي أن تنطلق من حماية عقول الأبرياء حتى لا يتسلّل إليها داء التطرّف و الإجرام فإنّ العنف بأنواعه ينشأ في العقول قبل أن تعلنه الشّوارع للعموم . و إنّ العفن لا يستشري ما لم يستفحل داء اللاّمبالاة ، هل تقبل العامّة التضحية ما لم تر الخاصّة قد أنكرت الذّات وآثرت البلاد ؟.ألا إنّ  صلاح الرعية لا يتحقّق ما لم يصلح رعاتها ، ولا سريان لقانون لم يمتثل له واضعه ولم يتحرمه منفّذه ، أنأمر بالبرّ و ننسى أنفسنا ؟ وننهى عن المنكر ونأتي أرذله و نعيب خلقا نحن من تجمّل به  ؟ ثمّ ننتظر الاحترام ونستغرب الاستنكار ..
     من المضحكات المبكيات أن تسمع "مسؤولين" أوتوا كتبهم وراء ظهورهم يحدّثونك عن الاستقامة و العفاف و آخرون أفرزتهم حالات اليأس و الطمع، ينبشون ذاكرة التاريخ بحثا عن زلّة أو عثرة ينفخون في رمادها لعلّ توهّجا ما    يحصل فيسترعي اهتمام متعطّشين لزرع بذور الفتنة ،  وهم يدركون أنّ الزلّة و العثرة لا تحصلان إلاّ من كادح سعى و اجتهد ولم يثنه الخوف من الوقوع فالقاعد ،لا غير، أبعد النّاس عن السقوط و أبعدهم عن بلوغ القمم  لذلك جدير بالعاقل ألاّ يكون أذنا ، فليس من الحكمة تمكين قاتل من سكّين جزّار .و ليس خدمة للحرّية ترك الحبل على غارب جموح ..لقد علّمتنا التجارب أنّ الشرس من الكلاب وجب تكميمه حفاظا على السلامة و توقّيا من الشّرور .




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire